و فيه: أنّ إرادة مطلق الخارج عن طاعة اللّه من إطلاق[1] الفاسق خلاف الظاهر[2] عرفاً، فالمراد به: إمّا الكافر، كما هو الشائع إطلاقه[3] في الكتاب، حيث إنّه يطلق غالباً في مقابل المؤمن. و إمّا الخارج عن طاعة اللّه بالمعاصي الكبيرة الثابتة تحريمها في زمان نزول هذه الآية، فالمرتكب للصغيرة غير داخلٍ تحت إطلاق الفاسق في عرفنا المطابق للعرف السابق[4] .

مضافاً إلى قوله تعالى: «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ‌»[5] النساء/31.

مع[6] أنّه يمكن فرض الخلوّ عن الصغيرة و الكبيرة، كما إذا علم منه التوبة من الذنب السابق، و به يندفع الإيراد المذكور[7] ، حتّى على مذهب من يجعل كلّ ذنبٍ كبيرة.

و أمّا[8] احتمال فسقه[9] بهذا الخبر- لكذبه[10] فيه[11] - فهو[12] غير قادح؛ لأنّ ظاهر قوله: «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ» الحجرات/6 تحقّق الفسق[13] قبل النبأ لا به، فالمفهوم يدلّ على قبول خبر من ليس فاسقاً مع قطع النظر عن هذا النبأ و احتمال فسقه[14] به.

هذه[15] جملةٌ ممّا أوردوه على ظاهر الآية، و قد عرفت أنّ الوارد منها إيرادان، و العمدة الايراد الأوّل[16] الذي أورده جماعةٌ من القدماء و المتأخّرين‌.

ثمّ[17] إنّه كما استدلّ بمفهوم الآية على حجّيّة خبر العادل، كذلك قد يستدلّ بمنطوقها على حجّيّة خبر غير العادل إذا حصل الظنّ بصدقه؛ بناءً على أنّ المراد ب «التبيّن»: ما يعمّ تحصيل الظنّ، فإذا حصل من الخارج ظنٌّ بصدق خبر الفاسق كفى في العمل به.

و من التبيّن الظنّيّ[18] : تحصيل شهرة العلماء على العمل بالخبر[19] أو على مضمونه[20] أو على‌ روايته[21] ، و من هنا[22] تمسّك بعضٌ بمنطوق الآية على‌ حجّيّة الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة، و في حكم الشهرة أمارةٌ اُخرى غير معتبرة[23] .

و لو عمّم التبيّن للتبيّن الاجماليّ[24] - و هو تحصيل الظنّ بصدق مخبره- دخل خبر الفاسق المتحرّز عن الكذب؛ فيدخل الموثّق و شبهه[25] بل الحَسَنَ أيضاً.

و على ما ذكر، فيثبت من آية النبأ- منطوقاً و مفهوماً- حجّيّة الأقسام الأربعة للخبر: الصحيح[26] ، و الحسن[27] ، و الموثّق[28] ، و الضعيف[29] المحفوف بقرينة ظنّيّة.

و لكن فيه[30] من الإشكال ما لا يخفى؛ لأنّ التبيّن ظاهرٌ[31] في العلميّ؛ كيف و لو كان المراد مجرّد الظنّ لكان الأمر به[32] في خبر الفاسق لغواً، إذ العاقل لا يعمل بخبرٍ[33] إلّا بعد رجحان صدقه على كذبه.

إلّا أن يدفع اللغويّة بما ذكرنا سابقاً: من أنّ المقصود[34] التنبيه و الارشاد على أنّ الفاسق لا ينبغي أن يُعتمد عليه، و أنّه لا يُؤمن من كذبه و إن كان المظنون صدقه[35] .

و كيف كان[36] : فمادّة «التبيّن» و لفظ «الجهالة[37] » و ظاهر التعليل[38] - كلّها- آبيةٌ عن إرادة مجرّد الظنّ.

نعم، يمكن دعوى صدقه على الاطمئنان الخارج عن التحيّر و التزلزل بحيث لا يعدّ في العرف العملُ به[39] تعريضاً للوقوع في الندم؛ فحينئذٍ لا يبعد انجبار خبر الفاسق به.

لكن، لو قلنا بظهور المنطوق في ذلك[40] كان[41] دالاً على حجّيّة الظنّ‌ الاطمئنانيّ المذكور و إن لم يكن معه[42] خبر فاسق؛ نظراً إلى أنّ الظاهر من الآية أنّ خبر الفاسق وجوده كعدمه[43] ، و أنّه لا بدّ من تبيّن الأمر من الخارج، و العمل على ما يقتضيه التبيّن الخارجيّ.

نعم، ربما يكون نفس الخبر من الأمارات[44] التي يحصل من مجموعها التبيّن.

فالمقصود[45] : الحذر عن الوقوع في مخالفة الواقع، فكلّما حصل الأمن منه[46] جاز العمل، فلا فرق حينئذٍ بين خبر الفاسق المعتضد بالشهرة إذا حصل الاطمئنان بصدقه و بين الشهرة المجرّدة إذا حصل الاطمئنان بصدق مضمونها[47] .

و الحاصل: أنّ الآية تدلّ على أنّ العمل يعتبر فيه التبيّن من دون مدخليّةٍ لوجود خبر الفاسق[48] و عدمه، سواء قلنا بأنّ المراد منه العلم أو الاطمئنان أو مطلق الظنّ، حتّى أنّ من قال‌ بأنّ‌ خبر الفاسق يكفي فيه مجرّد الظنّ بمضمونه- لِحُسنٍ‌ أو توثيقٍ أو غيرهما من صفات الراوي- فلازمُه[49] القولُ بدلالة الآية على حجّيّة مطلق الظنّ بالحكم الشرعيّ و إن لم يكن معه خبرٌ أصلاً، فافهم و اغتنم و استقم.

هذا، و لكن لا يخفى: أنّ حمل التبيّن على تحصيل مطلق الظنّ أو الاطمئنان يوجب خروج مورد المنطوق، و هو الإخبار بالارتداد[50] .[51]