لكنّ الإنصاف: عدم جواز الاستدلال بها من وجوه:

الأوّل[1] : أنّه لا يستفاد من الكلام إلّا مطلوبيّة الحذر عقيب الإنذار بما يتفقّهون في الجملة[2] ، لكن ليس فيها إطلاق وجوب الحذر[3] ، بل يمكن[4] أن يتوقّف وجوبه على حصول العلم، فالمعنى: لعلّه يحصل لهم العلم فيحذروا، فالآية مسوقةٌ لبيان مطلوبيّة الإنذار بما يتفقّهون، و مطلوبيّة العمل من المُنذَرين بما ُانذروا، و هذا[5] لا ينافي اعتبار العلم في العمل؛ و لهذا[6] صحّ ذلك فيما يطلب فيه العلم.[7]

فليس[8] في هذه الآية تخصيصٌ للأدلّة[9] الناهية عن العمل بما لم يعلم؛ و لذا[10] استشهد الإمام- فيما سمعت من الأخبار المتقدّمة- على وجوب النفر في معرفة الإمام عليه السّلام و إنذار النافرين للمتخلّفين، مع أنّ الإمامة لا تثبت إلّا بالعلم.[11]

الثاني[12] : أنّ التفقّه الواجب ليس إلّا معرفة الاُمور الواقعيّة من الدين، فالإنذار الواجب هو الإنذار بهذه الاُمور المتفقَّه فيها، فالحذر لا يجب إلّا عقيب الإنذار بها، فإذا لم يعرف المُنذَر- بالفتح- أنّ الإنذار هل وقع بالاُمور الدينيّة الواقعيّة أو بغيرها خطأً أو تعمّداً من المنذِر- بالكسر- لم يجب الحذر حينئذٍ، فانحصر وجوب الحذر فيما إذا علم المنذَر صدق المنذِر في إنذاره بالأحكام الواقعيّة، فهو نظير قول القائل: أخبِر فلاناً بأوامري لعلّه يمتثلها[13] .

فهذه الآية نظير ما ورد من الأمر بنقل الروايات‌؛ فإنّ المقصود من هذا الكلام ليس إلّا وجوب العمل بالاُمور الواقعيّة، لا وجوب تصديقه فيما يحكي و لو لم يعلم مطابقته[14] للواقع، و لا يعدّ هذا ضابطاً لوجوب العمل بالخبر الظنّيّ الصادر من المخاطب في الأمر الكذائيّ.

و نظيره[15] : جميع ما ورد، من بيان الحقّ للناس و وجوب تبليغه إليهم؛ فإنّ المقصود منه اهتداء الناس إلى الحقّ الواقعيّ، لا إنشاء حكمٍ ظاهريٍّ لهم بقبول كلّ ما يُخبَرون به و إن لم يعلم مطابقته للواقع.

ثمّ الفرق بين هذا الإيراد و سابقه[16] : أنّ هذا الإيراد[17] مبنيٌّ على أنّ الآية ناطقةٌ باختصاص مقصود المتكلّم بالحذر عن الاُمور الواقعيّة، المستلزم[18] لعدم وجوبه إلّا بعد إحراز كون الإنذار متعلّقاً بالحكم الواقعيّ، و أمّا الإيراد الأوّل فهو مبنيٌّ على سكوت الآية عن التعرّض لكون الحذر واجباً على الإطلاق[19] أو بشرط حصول العلم.

جلسه 126 (ص 284)

الثالث[20] : لو سلّمنا دلالة الآية على وجوب الحذر مطلقاً[21] عند إنذار المُنذِر و لو لم يُفد العلم، لكن لا تدلّ على وجوب العمل بالخبر من حيث إنّه خبر؛ لأنّ الإنذار هو الإبلاغ مع التخويف[22] ، فإنشاء التخويف مأخوذٌ فيه[23] ، و الحذر هو التخوّف الحاصل عقيب هذا التخويف الداعي إلى العمل بمقتضاه فعلاً، و من المعلوم أنّ التخويف لا يجب إلّا على الوُعّاظ في مقام الإيعاد على الاُمور التي يَعلم المخاطبون بحكمها من الوجوب و الحرمة، كما يُوعد على شرب الخمر و فعل الزنا و ترك الصلاة، أو على المرشدين في مقام إرشاد الجهّال، فالتخوّف لا يجب إلّا على المتّعظ أو المسترشد، و من المعلوم أنّ تصديق الحاكي فيما يحكيه من لفظ الخبر الذي هو محلّ الكلام خارجٌ عن الأمرين[24] .

توضيح ذلك: أنّ المنذِر إمّا أن يُنذِر و يُخَوِّف على وجه الإفتاء و نقل[25] ما هو مدلول الخبر باجتهاده، و إمّا أن ينذر و يخوّف بلفظ الخبر حاكياً له عن الحجّة.[26]

فالأوّل، كأن يقول: «يا أيّها الناس اتّقوا اللّه في شرب العصير؛ فإنّ شربه يوجب المؤاخذة». و الثاني، كأن يقول في مقام التخويف: قال الإمام عليه السّلام: «من شرب العصير فكأنّما شرب الخمر».

أمّا الإنذار على الوجه الأوّل[27] ، فلا يجب الحذر عقيبه[28] إلّا على المقلّدين لهذا المفتي[29] .

و أمّا الثاني، فله جهتان: إحداهما: جهة تخويفٍ[30] و إيعاد. و الثانية: جهة حكاية قول من الإمام عليه السّلام.

و من المعلوم أنّ الجهة الاُولى ترجع إلى الاجتهاد في معنى الحكاية[31] ، فهي[32] ليست حجّة إلّا على من هو مقلِّدٌ له؛ إذ هو الذي يجب عليه التخوّف عند تخويفه[33] .

و أمّا الجهة الثانية، فهي التي تنفع المجتهد الآخر الذي يسمع منه هذه الحكاية، لكن وظيفته[34] مجرّد تصديقه في صدور هذا الكلام عن الإمام عليه السّلام، و أمّا أنّ مدلوله متضمّنٌ لما يوجب التحريم الموجب للتخوّف‌ أو الكراهة، فهو ممّا ليس فهم المنذر حجّةً فيه بالنسبة إلى هذا المجتهد[35] .

فالآية الدالّة على وجوب التخوّف عند تخويف المنذرين مختصّةٌ بمن يجب عليه اتّباع المنذِر في مضمون الحكاية و هو المقلِّد له؛ للإجماع على أنّه لا يجب على المجتهد التخوّفُ عند إنذار غيره. إنّما الكلام[36] في أنّه هل يجب عليه تصديق غيره في الألفاظ و الأصوات التي يحكيها عن المعصوم عليه السّلام أم لا؟ و الآية لا تدلّ على وجوب ذلك على من لا يجب‌ عليه التخوّف عند التخويف.

فالحقّ: أنّ الاستدلال بالآية على وجوب الاجتهاد كفايةً و وجوب التقليد على العوامّ، أولى[37] من الاستدلال بها على وجوب العمل بالخبر.

جلسه 127 (ص 286)

و ذكر شيخنا البهائيّ قدّس سرّه في أوّل أربعينه:

أنّ الاستدلال بالنبويّ المشهور: «من حَفَظَ على أُمّتي أربعين حديثاً بعثه اللّه يوم القيامة فقيهاً عالماً» على حجّيّة الخبر، لا يَقصُر[38] عن الاستدلال عليها بهذه الآية.

و كأنّ فيه إشارة إلى ضعف الاستدلال بها؛ لأنّ الاستدلال بالحديث المذكور ضعيفٌ جدّاً[39] ، كما سيجي‌ء إن شاء اللّه عند ذكر الأخبار.

هذا، ولكن[40] ظاهر الرواية المتقدّمة عن علل الفضل يدفع هذا الإيراد[41] . لكنّها[42] من الآحاد؛ فلا ينفع في صرف الآية عن ظاهرها[43] في مسألة حجّيّة الآحاد[44] . مع إمكان منع دلالتها على المدّعى[45] ؛ لأنّ‌ الغالب تعدّد من يخرج إلى الحجّ من كلّ صُقعٍ بحيث يكون الغالب حصول القطع من حكايتهم لحكم اللّه الواقعيّ عن الإمام عليه السّلام، و حينئذٍ[46] فيجب[47] ‌ الحذر عقيب إنذارهم، فإطلاق[48] الرواية مُنزَّلٌ على الغالب[49] .